قيم الدولة والهوية الوطنية


د. محمد أبو رمان

يشعر كثير من الأردنيين اليوم بقلق شديد لما نشاهده ونقرأه على مواقع التواصل الاجتماعي من انتشار وتفشّي لخطاب إقصائي تخويني هويّاتي – بالمعنى المجتزأ والعصابي- طفح على السطح خلال الأيام الماضية وجرى الترويج له والتعبئة الافتراضية عليه، وكأنّنا في حالة صراع اجتماعي أو سياسي داخلي على خلفية ما يحدث في فلسطين. وهنا مكمن المفارقة؛ إذ أنّ المشهد الأردني كان - لأسابيع قريبة- وخلال فترة العدوان كاملةً نموذجاً عربياً مدهشاً في الاتفاق والتوافق والمواجهة الدبلوماسية والشعبية مع سياسات إسرائيل العدوانية في غزة وحتى في الضفة الغربية!

لا نعلم بصورة دقيقة حجم الانتشار والتفشي لهذا النمط من الخطاب والحوار السلبي الخطير، على مواقع التواصل الاجتماعي، فهنالك خوارزميات ومحددات تجعل ما يظهر لك يختلف عما يظهر لي، لكن من خلال متابعة العديد من الأحاديث السياسية في الأردن، يبدو أنّنا أمام ظاهرة فعلاً وليست مسألة محدودة تبرز للمشتبكين مع هذا الشأن، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد إذاً من خطاب عقلاني راشد واعٍ من أعلى المستويات في الدولة والنخبة السياسية المتّزنة لترشيد النقاش العام والتمييز بين المربعات المرتبطة ببنية الخطاب الوطني الحقيقي والخطاب النفسي العصابي وبين ما يخدم المصالح الوطنية والاستراتيجية من جهة وما يؤذي الجميع وينتهي بنا الأمر إلى مهزلة حقيقية الجميع فيها خاسرون، لا يوجد أي رابح فيها. فأي خطاب لا يقوم على مبدأ الوحدة الوطنية وترصيص الجبهة الداخلية وتعزيز اللحمة الوطنية هو خطاب ضار ومؤذٍ للمجتمع والدولة ولا يمكن أن يكون نافعاً!

من الضروري أن نميّز هنا بين مبدأ سيادة القانون واحترام الدولة وقيمها وقيادتها ورفض المواقف المتطرفة في خطابات تصدر هنا أو هناك من جهة وبين أن يتم تحويل ذلك الموقف الوطني إلى سلاح فتّاك يستخدمه طرف ضد أطراف أخرى ويؤدي إلى نتائج وخيمة وتهتيك للمشاعر الوطنية المشتركة ونقل المعركة أو القضية – وهذا أمر محزن فعلاً- من التركيز الداخلي والإعلامي وصورة المجتمع والدولة من الدعم والمساندة والمؤازرة للأشقاء الفلسطينيين في مواجهة حرب الإبادة والقتل والتجويع والتدمير التي يتعرضون لها، إلى معركة داخلية وتصفية حسابات سياسية تجهز على الصورة الجميلة الخلاّقة التي قدمتها القيادة الأردنية والدبلوماسية الأردنية منذ بداية العدوان، وتنسف كل هذه الجهود والعمل المتواصل، وهو الأمر الذي دفع ثمنه الأردن دبلوماسياً واقتصادياً، وما يزال، فلماذا نهدم جهودنا وعملنا بأيدينا؟!

من هنا فإنّ هنالك قواعد رئيسية من الضرروي أن نأخذها بعين الاعتبار في بناء السياسة الوطنية في مواجهة هذا النمط من الخطاب المتبادل؛ بدايةً من الضروري ألا نتورط في صراع داخلي لا قيمة له ولا نتيجة له ولا غاية وطنية من ورائه إلاّ الانجرار إلى لغة الغرائز والهواجس والاستسلام لقصيري النظر ومحدودي الفكري، القاعدة الثانية الوحدة الوطنية أولاً وثانياً وثالثاً، هي صمّام الأمان وهي عنوان قوة الدولة وترابط أبنائها، ولا يجوز أن نضحّي بهذه القيمة الكبيرة بأي داعٍ من الدواعي، ونحن نرى حولنا أنّ انهيار الدول يبدأ من التفكك الداخلي أولاً في المجتمع نفسه، وانقلاب أبنائه على بعضهم البعض وسيادة لغة الهواجس والهويات الفرعية على حساب اللغة الوطنية الشاملة، والقاعدة الثالثة أنّ قوة الأردن وصلابته وتماسكه هو قوة للفلسطينيين والقضية الفلسطينية، بخاصة في هذه المرحلة الأكثر خطورة في تاريخ القضية وفي تحديد مستقبلها، فلا توجد دولة تقف مع فلسطين اليوم مثل الأردن، والعكس صحيح، فعلينا الانتباه إلى أنّه قد يكون هنالك فعلاً من يريد أن يعبث بالداخل الأردني لهزّ هذا الموقف الصلب، والقاعدة الرابعة التمييز بين المنطلقات الوطنية والجوامع الواضحة بين الكل من جهة والحسابات السياسية والحزبية والفصائلية من جهةٍ أخرى، والتمييز بين المعادلة الداخلية الأردنية والمعادلة الإقليمية، فهنالك قيم ومبادئ وطنية تحرّكنا جميعاً، وهنالك اجتهادات ومواقف سياسية وحزبية داخلياً وخارجياً، فمن باب أولى أن نقف عند الجوامع والقواسم المشتركة وعلى الأرضية العامة التي تشكل مساحة 80% بدلاً من البحث عن الاختلافات والخلافات والمواقف الجزئية!

هذا وذلك يقتضي ثلاثة أمور رئيسية؛ الأول عدم التعميم وإطلاق الأحكام العامة، إذا تصرف أحدهم بصورة خاطئة، لا ننتقل إلى خطاب عام يهاجم نسبة كبيرة من المجتمع، فهذا خطير وسلبي وليس بريئاً، والثاني أنّ موقف الدولة – سلوكياً وخطابياً- ليس من المفترض أن يتماهى مع خطابات مأزومة أو محدودة، بل من الضروري أن يكون عالياً ويسع الجميع ويشمل المواطنين جميعاً، والثالث أنّ قيم الدولة الأردنية التي أصبحت قيمة كبيرة ولها سمعة تاريخية وعالمية هي التي من المفترض أن تكون العنوان؛ الاعتدال، التوازن، التسامح والحكمة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات